كتب:
بقلم/عبدالخالق فاروق
كثيرون هم الذين لا يحيطون علماً بذلك الأخطبوط الضخم المسمي "الجهاز
الإداري للدولة" في مصر. كيف يدار من الداخل؟ وكيف يؤثر في محيطه الخارجي؟
كيف تطور هذا الجهاز؟ وما هي مراكز الثقل والتأثير داخله؟ وهل العاملون فيه
هم والمسيطرون عليه هم جماعة من الشياطين والفاسدين؟ أم أن هؤلاء جميعاً
أو القطاع الأكبر منهم هم ضحايا سياسات عامة أوغلت فيهم فأساءت إليهم
كأفراد وأحاطت جهازهم الإداري بالشبهات والمآخذ العديدة؟
هذه هي عينة من التساؤلات التي تتبادر إلى أذهان المصريين وغير المصريين عند ذكر الجهاز الإداري للدولة وتصرفات العاملين فيه.
ونحن
من جانبنا سوف نحاول تقديم صورة ولو تقريبية؛ ورؤية وأن بدت تحليلية
وأكاديمية حول هذا الجهاز والعاملين فيه والعوامل المؤثرة في سلوكهم
الوظيفي والاجتماعي.
كما أنه وبعد أحداث الثورة المصرية الكبري في
الخامس والعشرين من يناير عام 2011 وما نتج عنها من نتائج وتداعيات، يتطلب
الأمر النظر في كيفية إعادة بناء أجهزة الإدارة الحكومية بصورة أكثر عدالة
وتوازنا.
أولاً: تطور الجهاز الحكومي المصري (1950 ـ 2010):
نشأ
الجهاز الحكومي المصري؛ منذ قديم الأزل؛ أي منذ نشأة الدولة الفرعونية
القديمة وارتبط بأداء أدوار محددة لا تخرج عن ثلاثة هي؛ تنظيم الدورة
الزراعية والتحكم في حركة نهر النيل من ناحية وتنظيم سبل الجباية الضريبية
من المواطنين لصالح الكهنة وآل الحكم حتي لو استدعي الأمر استخدام وسائل
القهر والتسلط من ناحية ثانية؛ ثم أخيراً خدمة وحماية رجال الحكم والإدارة
والكهنة؛ بما في ذلك تنظيم عمليات بناء الأهرامات والمقابر الملكية وكبار
رجال الكهنة في طول البلاد وعرضها.
ومع انهيار الدولة الفرعونية من جراء
عمليات الغزو والاعتداء القادم من خلف الحدود (الهكسوس ـ الحيثيين.. الخ)
لم تعرف البلاد نظاماً إدارياً متماسكاً لحقب وعقود طويلة.
مرت الفترات
اللاحقة من حكم الإسكندر الأكبر ثم الرومان وحتي فتح العرب لمصر دون أن
يتأسس نظام إداري مصري مستقل حتي تجربة محمد على باشا وأسرته؛ وتكشف وثائق
يوميات الأوامر الخديوية مقدار الفوضي والشخصانية التي ميزت الإدارة
الحكومية والقائمة على الاستمزاج الشخصي للخديو وأقربائه وخلال هذه الفترة
بلغ الجهاز الحكومي في عهد محمد على باشا حوالي (أربعمائة) ألف شخص معظمهم
(300 ألف) من جنود الجيش والبحرية.
إذن خلال هذه الفترة الممتدة من 1807
حتي عام 1950 ظل الجزء الأكبر من موظفي الإدارة الحكومية المصرية هم من
جنود الجيش والبحرية والبوليس أما موظفي الخدمة المدنية بكافة فروعها
(تعليم ـ صحة ـ ضرائبـ جمارك.. الخ) فلم يكن يزيدوا على مائة ألف شخص.
الاحتلال
البريطاني لمصر عام 1882 حاول تنظيم جهاز للخدمة المدنية ـ مع تقليص أعداد
الجيش إلى ما لا يزيد على 18 ألف جندي وضابط ـ بحيث يلبي الانتظام المطلوب
لإدارة شئون البلاد بما ييسر سبل حكمها والسيطرة عليها؛ وتكشف الدراسات
الجادة حول شكل وعدد الوزارات (النظارات) المصرية خلال المرحلة التي سبقت
عقد اتفاقية الاستقلال المنقوص عام 1936 أنها لم تكن تزيد عن خمس عشرة
وزارة (نظارة) في أفضل الأحوال عن طبيعة وحجم الإدارة الحكومية المصرية
وقتئذ.
وعشية أول محاولة لتنظيم الإدارة المصرية الحديثة عام 1951 مع
استقدام الخبير الانجليزي "سنكر" Sinker كانت الإدارة الحكومية المصرية
مكونة من 441 ألف موظف ومشتغل منهم 126 ألفا في جهاز البوليس (أي الربع
تقريباً) ووضع الرجل تقريره الشهير الذي على أساسه أعيد تنظيم الهيكل
التنظيمي للإدارة الحكومية وجهاز الخدمة المدنية في مصر.
وإذا أضفنا
إليهم موظفي مجلس الشيوخ والنواب (ألفا موظف) ورجال الجيش فإن الرقم يصل
إلى 440985 وهؤلاء يقودهم 175 مديرا عاما و58 وكيل وزارة وكان حجم الأجور
المخصصة لهم في الميزانية ذلك العام 71.5 مليون جنيه بما يعادل 35% من
ميزانية الدولة في ذلك العام وكان عدد سكان مصر وقتئذ حوالي 18 مليون نسمة
وفي وقت لم تزد الميزانية العامة للدولة المصرية على 187 مليون جنيه.
ويمكن للمحلل المدقق رصد ثلاث مراحل مر بها الجهاز الحكومي عموماً والتوظف الحكومي على وجه الخصوص بعد ثورة يوليو عام 1952.
المرحلة الأولي: (1975 ـ 1972)
وقد
زاد فيها أعداد الوظائف والعاملين بالجهاز الحكومي من جهة وتوسعت فيها
الهياكل الإدارية والتنظيمية Organizations من جهة أخري بسبب زيادة دور
الدولة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهكذا زاد عدد
العاملين من 550 ألفا عام 1957 إلى 770 ألفاً عام 62/1963 ثم إلى 933 ألفا
عام 65/1966 وفي عام 71/1972 بلغ عدد الموظفين والعاملين بالقطاع الحكومي
حوالي 1.3 مليون موظف، وزادت بالمقابل عدد المؤسسات العامة من مؤسسة واحدة
عام 1955 إلى 66 مؤسسة اقتصادية عام 1972، بالإضافة إلى 60 هيئة خدمية وعدد
الوزارات زاد في المتوسط على ثلاثين وزارة وعدد من الأجهزة الحكومية
المركزية (المحاسبات ـ الإحصاء ـ التنظيم والإدارة.. الخ) زادت على 16
جهازاً مركزياً.
المرحلة الثانية: (1973 ـ 1997)
لاعتبارات أخري
تمثلت في محاولة الرئيس السادات وحكوماته امتصاص حالة الغضب التي انتابت
الجماهير الشعبية في أعقاب انتفاضة يومي 18 و19 يناير عام 1977؛ جري واحدة
من أكبر عمليات التوظيف الحكومي وتوسيع إضافي في هيكل المنظمات الحكومية
المصرية ومن أجل التخفيف من مظاهر البطالة التي بدت واسعة بعد تسريح عشرات
الآلاف من الشباب من الخدمة العسكرية؛ وهكذا زاد عدد الموظفين خلال هذه
الفترة حتي بلغت حوالي 5.5 مليون موظف (ووظيفة) وزادت رواتبهم وأجورهم
بالمقابل من 541 مليون جنيه عام 1973 إلى 24.5 مليار جنيه عام 96/1997.
المرحلة الثالثة: (1998 ـ 2010)
وهي
التي شهدت جهوداً حكومية منظمة من أجل تخفيض العمالة الحكومية في كافة
مجالات الخدمة المدنية، في حين تضخم جهاز الأمن الداخلي بحيث ظلت العمالة
الحكومية في كافة القطاعات كما هي حتي عام 2008 وهي:
ـ الجهاز الإداري للدولة 1.3 مليون موظف
ـ الهيئات الخدمية 400 ألف موظف
ـ الإدارة المحلية 3.5 مليون موظف
ـ الهيئات الاقتصادية 300 ألف موظف
المصدر: الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، بيان مستقل 2010
ومن بين
هؤلاء هناك ثلاث وزارات تستحوذ وحدها على حوالي 60٪ من إجمالي العمالة
الحكومية وهي وزارة التربية والتعليم (1.7 مليون مدرس وموظف وعامل) ووزارة
الداخلية (750 ألف ضابط وأمناء ومندوبين وأفراد) ـ بخلاف قوات الأمن
المركزي الذين يقاربون 450 ألف جندي لا يدرجون في الوظائف الحكومية لكونهم
في الخدمة العسكرية الإلزامية ـ وأخيراً وزارة الأوقاف التي يعمل بها حوالي
300 ألف موظف (وعاظ وخطباء وأئمة وخدام للمساجد) ووزارة الصحة ومديرياتها
البالغ عدد العاملين فيها حوالي 350 ألف طبيب وممرضة وموظف إداري. لقد بلغ
حجم الاعتمادات المالية المخصصة للأجور والرواتب لهذا الجهاز الحكومي الضخم
في عام 2008/2009 حوالي 75 مليار جنيه بما يشكل حوالي 30٪ من إجمالي
مصروفات الموازنة العامة للدولة ذلك العام.
هذا التضخم في الجهاز الحكومي المصري كان لعدة أسباب:
الأول:
هو أن معدل التزايد السكاني يتوافق مع هذه الزيادة الملحوظة في التوظف
فمقابل 18 مليون نسمة عام 1953 أصبح عدد السكان بحلول عام 2009 حوالي 75
مليون مواطن (أي تضاعف أربع مرات) وبالمقابل تضاعف عدد الموظفين والعاملين
بالقطاعات الحكومية من 500 ألف عام 1953 إلى 5.5 مليون عام 2009 (أي عشرة
أضعاف).
الثاني: أن أدوار الحكومة المصرية بعد عام 1952 قد تغيرت تغيراً
جوهرياً ولا زالت من مجرد دولة محايدة اجتماعياً ـ وإن كان في العمق
والجوهر منحازة لكبار الملاك والرأسماليين ـ إلى دولة متدخلة اقتصادياً
واجتماعياً حتي عام 1991 على الأقل.
الثالث: وبالمقابل فإن توسعا وتوحشا
في جهاز الأمن المصري قد برز كأحد أهم أدوار الحكومة المصرية خاصة بعد عام
1975 حيث زاد عدد أفراد وزارة الداخلية من اقل من 230 ألفاً إلى 800 ألف
فرد عام 2009 بالإضافة إلى 400 ألف من جنود وأفراد الأمن المركزي أي لدينا
جهاز أمن داخلي يزيد على 1.2 مليون فرد؛ هذا علاوة على وجود شبكة هائلة
وواسعة من المرشدين والجواسيس في كافة مجالات العمل المدني في أوساط
(الصحفيين ـ أساتذة جامعات ـ المهندسين ـ الأطباء ـ الموظفين ـ النقابيين..
الخ) ويقدر البعض حجم هذه الشبكة الواسعة لنقل المعلومات بحوالي 200 ألف
إلى 350 ألفا آخرين.
ولعل السبب في بقاء أعداد العاملين بالقطاعات
الحكومية عند مستواه خلال الفترة من عام 1997 حتي 2010 هو زيادة أعداد
أفراد وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف، مقابل عملية عكسية كانت تجري تتمثل
في بيع الشركات العامة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي وتحويل عدد كبير من
الهيئات الاقتصادية من هيئات حكومية إلى شكل الشركات القابضة (المياه ـ
الصرف الصحي ـ الكهرباء.. الخ).
والسؤال الحيوي الآن.. كيف جري إفساد قطاع كبير من العاملين في هذا الجهاز الحكومي الضخم؟
ثانياً: من خدمة الجمهور.. إلى الخدمة الذاتية الموازية:
في تأمل المشهد الإداري العام في مصر، يكتشف المحلل مجموعة من العوامل
والحقائق الموضوعية دفعت الجهاز الإداري وكثير من العاملين فيه إلى التحول
من كونهم أداة خدمة عامة للجمهور إلى العمل فيما نسميه النشاط الموازي
Parallel Activities أو الأنشطة الخفية Hidden Activities وهذه العوامل
الموضوعية يمكن تحديدها على وجه الحصر في الآتي:
1- أدي التحول في فلسفة
النظام السياسي المصري من التخطيط المركزي و"الاشتراكية" إلى الانفتاح
الاقتصادي وإطلاق آليات السوق دون توافر كافة مقوماتها الحافظة للتوازن ـ
كآليات حماية المستهلك والمنافسة ومنع الاحتكارات ـ إلى سيادة مشاعر من
الفردية وهيمنة ثقافة المصلحة الفردية دون أي اعتبار لقيمة ومفهوم المصلحة
العامة؛ فانتشرت ممارسات من قبيل "الزوغان" من العمل والتغيب أثناء ساعات
العمل الرسمية من أجل قضاء المصالح الخاصة لكثير من الموظفين؛ مروراً بعدم
أداء العمل بصورة مقبولة (كالمدرسين ـ الأطباء ـ وأطقم الخدمة الطبية
وموظفي المحافظات..الخ) انتهاء بانتشار ظاهرة تقبل الرشوة أو الإكراميات.
2- وزاد
من لهيب هذا الحريق؛ أن معدلات التضخم وارتفاع الأسعار قد أديا إلى بروز
مظاهر متناقضة ومربكة للكثير من الموظفين والعاملين بأجر شبه ثابت؛ وهما
تآكل القيمة الحقيقية لهذه الأجور والرواتب من جهة مع وجود حركة أموال
ومشتريات هائلة ممولة جميعها من العاملين المصريين بالخارج الذين قدرت
المصادر الإحصائية الرسمية عددهم عشية تعداد عام 1976 بحوالي 1.4 مليون
مصري زادوا حتي بلغ عددهم عام 1983 حوالي 3.2 مليون مصري وفقاً لتقديرات
وزارة الخارجية المصرية ووفقاً لتقديرات وزارة القوي العاملة والهجرة
ودراسات لباحثين ثقاة فإن عدد المصريين العاملين في الدول العربية وحدها ـ
بخلاف الهجرة الدائمة في بلاد المهجر في أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا ـ
عشية حرب تدمير العراق عام 1991 يزيدون على خمسة ملايين مواطن مصري.
وهذه
المظاهر المتناقضة والمربكة قد فعلت فعلها في مئات الآلاف من الموظفين
الذين لم يسعفهم الحظ بالسفر للعمل بالخارج؛ فاندفع الآلاف منهم لتعويض هذا
الحرمان باللجوء إلى ما نسميه الاقتصاد الموازي؛ وكان أخطرها على الإطلاق
في قطاع التعليم (أكثر من مليون مدرس) فانقض العدد الأكبر من هؤلاء على
تلاميذ المدارس الحكومية بصورة خاصة ـ فتحول التعليم إلى أكبر سوق سوداء في
تاريخ البلاد؛ وبقدر ما نجح هؤلاء في تعويض حالة الحرمان المادية هذه بقدر
ما أخذوا معهم إلى القاع النظام التعليمي المصري كله، والأهم والأخطر قيمة
القدوة والأستاذية.
3 ـ وتظهر الدراسات الحديثة بشأن نظام الأجور
والرواتب بالقطاع الحكومي المصري عن أبعاد خطيرة لعدم المساواة بين أصحاب
المراكز القانونية المتماثلة فعلى سبيل المثال؛ بينما يعمل بالمحليات
(المحافظات ودواوينها ومديرياتها) ما يزيد قليلاً على 3.5 مليون موظف أي ما
يشكل حوالي 65٪ من إجمالي العمالة الحكومية فإن هؤلاء يكاد يحصلون على
حوالي 15٪ إلى 20٪ مما يحصل عليهم نظراؤهم العاملون في الوزارات والأجهزة
المركزية بالعاصمة. وذلك دون أدني سبب أو مبرر قانوني لهذا التفاوت الهائل.
والأسوأ أن هذه الأجور والرواتب المنصرفة للعاملين بالمحليات لا تمثل سوي
إنفاق أسبوع واحد لأسرة مكونة من أربعة أفراد، مما فتح أبواب جهنم على سير
العمل الإداري بالمحليات ودفع أحد رموز وقيادات الحكومة والحزب الحاكم
(د.زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجهورية) إلى القول بأن الفساد في
المحليات قد وصل إلى الركب.. ولم يكن الرجل يدرك أن الفساد في المحليات قد
وصل إلى العنق وليس فقط إلى الركب..!!.
4 ـ وساهم في كل هذا سياق إداري
وقانوني يدفع إلى الفوضي وخلق الثغرات يكفي أن نشير إلى أن المنظومة
القانونية التي تحكم العمل الإداري والحكومي قد بلغ عددها ما يزيد على
52310 قوانين وقرارات سارية.
ومع كل هذه الغابة من التشريعات واللوائح
بدا أن الجهاز الحكومي وموظفيه قد تاه وأتاح الفرصة سانحة لكل من يرغب في
التلاعب والفساد أن يمارس سطوته.
5 ـ وزاد الأمر سوءاً أن انتشار
الأخبار حول ممارسات الفساد في قمة الهرم السياسي والتشريعي والتنفيذي في
البلاد، المدعومة بالكثير من الوقائع والمستندات؛ وما دار في أروقة وجلسات
المحاكم ودور القضاء؛ خاصة بعد بداية تطبيق برنامج بيع الأصول والممتلكات
الحكومية (الخصخصة) قد خلقت جواً مسموماً أضافت أبعاداً جديداً، حيث مست
الأعصاب الحساسة للدولة والمجتمع.
6 ـ أضف إلى ذلك أن بيئة العمل
الحكومي؛ سواء من حيث البنية اللوجستية (إضاءة ـ حرارة ـ مقاعد ـ مكاتب..
الخ) تبين بالدراسات الميدانية أنها تفتقر إلى مقومات إنسانية تسمح بإدارة
كفء للخدمات الجماهيرية سواء كان ذلك في المحاكم وأقسام الشرطة أو مكاتب
التوثيق والشهر العقاري أو المستشفيات والوحدات الصحية ومراكز الشباب
والأندية ومكاتب الشئون الاجتماعية بالمحافظات.
وقد كشفت دراستنا
"اقتصاديات الوقت الضائع" الصادرة عام 2002 مقدار الوقت الضائع (حوالي 50٪
في المتوسط من وقت العمل الرسمي) وقدرنا تكاليفه بما يتراوح بين 4.1 مليار
جنيه إلى 5.8 مليار جنيه وذلك في عام 2000/2001 وحده.
7 ـ وزاد الأمر
سوءاً؛ أن بيع الأصول العامة (الخصخصة) وما صاحبها من تسريح العمالة تحت
مسمي (المعاش المبكر) قد خلق شعوراً سحيقا لدي مئات الآلاف من الموظفين
بأنهم قد صاروا عبئا على الدولة؛ فحفر ثقافة شديدة السلبية؛ تذهب إلى عدم
الانتماء لمؤسسات العمل؛ وعدم الولاء لقواعد ونظم العمل؛ وغلبت سلوكيات
شديدة الأنانية لدي عشرات الآلاف من الموظفين؛ خاصة وأن هذه السياسة قد
صاحبها انتشار الوساطة والمحسوبية في شغل الوظائف القليلة المتاحة في
الجهاز الإداري للدولة من ناحية والاتجاه المتعسف في فرض قانون جديد للخدمة
المدنية يقوم على فكرة التعاقد المؤقت والتخلص من فكرة "الوظائف الدائمة"
باعتبار الأخيرة ميراثاً للاشتراكية وللفترة الناصرية..!!
ثالثا: أضرار تحزيب الوظيفة الحكومية
عبر
مخاض طويل وعسير، نجحت النظم الديمقراطية الحديثة في بناء نظم إدارية
وأجهزة حكومية ذات كفاءة ومصداقية، سواء في انجلترا أو الولايات المتحدة أو
بقية دول أوروبا الغربية. واستندت هذه النظم الإدارية على مجموعة من
المبادئ والقيم كان في طليعتها أبعاد الأجهزة الحكومية عن التحزيب
السياسي؟.. حفاظاً على استقرارها الداخلي من ناحية وضماناً لكفاءتها في
تقديم خدماتها إلى المواطنين ودافعي الضرائب من كافة الاتجاهات والانتماءات
السياسية والفكرية.
وقد حاولت مصر اقتباس هذه التجارب، فاستقدمت مرة
الخبير الإنجليزي "سنكلر Sinker عام 1950 ثم عادت واستعانت بالخبيرين
الأمريكيين البارزين "جوليك" و"بوليك" عام 1963م.
وفي ضوء تقرير
الأخيرين جري إعادة بناء الأجهزة الحكومية المصرية الحديثة، في ضوء درجة من
التوازن بين أجهزة الخدمات من جهة وأجهزة الرقابة من جهة أخري وفي إطار
منظومة تحرص على إجراء مراجعات دورية في مجال تخطيط القوي العاملة ونظم
تأهيلها وتدريبها.
وكان من أبرز المبادئ الذي حاولت الإدارة الحكومية اتباعها مبدآن:
الأول: تحييد نظم شغل الوظائف والترقي الإداري عن اعتبارات التحزيب السياسي والانتماءات الحزبية.
الثاني: تحييد هذه الأجهزة أثناء تقديمها للخدمة عن اعتبارات السياسة وقيودها بحيث تصبح متاحة إلى المواطنين جميعاً.
وبشكل
أو بآخر, حاولت الإدارة السياسية طوال عقود الخمسينات والستينات
والسبعينات تحقيق هذين الهدفين، خاصة عندما تبنت قانون عام 1964م الذي يقضي
بالتزام الدولة بتعيين كافة خريجي النظام التعليمي في المصالح الحكومية
المختلفة.
صحيح أن خروقات قد حدثت هنا أو هناك، ودخلت الوساطة
والمجاملات في تعيين بعض الأشخاص في هذه المصلحة أو تلك، وهذه الوزارة أو
تلك خاصة في قمة القيادات الإدارية، إلا أن الطابع العام والغالب كان هو
الحفاظ على "حياد الجهاز الحكومي" عن الانغماس المباشر والتورط المكشوف في
الانتماء السياسي.
بيد أن تغيراً جوهرياً قد بدأ يؤثر بفعله السلبي على
الإدارة الحكومية، منذ عام 1984م، حينما وجهت السهام المسمومة ضد مبدأ
التزام الدولة بتعيين الخريجين، وبدلاً من معالجة الجوانب السلبية للنظام،
جري خنقه واغتياله ذلك العام. وبرغم ذلك فقد شهد الجهاز الحكومي أكبر حركة
تعيينات بحيث زاد حجم الموظفين من 2.1 مليون موظف عام 1984م إلى 5.1 مليون
موظف عام 1998م وانفردت ثلاث وزارات بحوالي 55% من إجمالي الموظفين
الحكوميين وهم:
ـ وزارة التربية والتعليم 1.3مليون موظف
ـ وزارة الداخلية 750 ألف موظف
ـ وزارة الأوقاف 250 ألف موظف
واستمرت
الزيادة بعد ذلك دون قواعد سوي عناصر الوساطة والمحسوبية والأخطر من كل
ذلك هو زرع فيروس "الحزبيـة"؛ فتحولت العلاقات الحزبية لقيادات الحزب
الوطني وأعضاء مجلسي الشعب والشوري إلى نوافذ خلفية للتعيين والترقي وشغل
وظائف المستشارين في الوزارات والأجهزة الحكومية جميعاً وزاد الأمر سوءاً
انفلات نظم الأجور المتغيرة من كل قيد، فتحولت إلى "تفاحـة إبليس" بحيث بدا
لكل وزارة أو مصلحة أو هيئة بالعاصمة نظاماً مختلفاً تماماً للأجور
والرواتب ودخلنا إلى غابة شيطانية بكل ما تحمله الكلمة من معني.
ولم
يستند هذا الانفلات على أي أساس قانوني، وإنما ارتبط بمدي قوة ونفوذ هذا
الوزير أو ذاك أو رئيس المصلحة داخل بنية الهرم الإداري بالدولة وخصوصاً
مدي علاقته بشخصين وجهازين هما وزير المالية ووزارته ورئيس الجهاز المركزي
للتنظيم والإدارة وبعض قياداته وأغرت العلاقات بالحزب الوطني الحاكم ولجنة
سياساته التي باتت أساس لشغل الوظائف القيادية بالوزارات والأجهزة الحكومية
بالتمادي في مخالفة القوانين وضرب عرض الحائط بنصوصها وروحها.
رابعا: كيف نعيد بناء الإدارة الحكومية
يحتاج إعادة بناء أجهزة الإدارة الحكومية التأسيس على ثلاث ركائز أساسية هي:
1- فلسفة جديدة لإدارة نظام الخدمة المدنية.
2- إعادة البنية الإدارية إلى حجمها الطبيعي والمنطقي.
3- إعادة هيكلة نظام الأجور والرواتب.
فما الذي نعنيه بهذه العناصر الثلاثة؟
أولاً: فلسفة نظام الخدمة المدنية:
عبر أكثر من خمسين عاماً جرت انحرافات تدريجية في نسق القيم الثقافية
والاجتماعية ومفهوم العمل الإداري لدي العاملين في معظم ـ إن لم يكن جل ـ
الوحدات الإدارية المصرية ذلك أن الأصل في جهاز الخدمة المدنية Civil
Service أنه يقوم على أداء خدماته إلى المواطنين في كافة المجالات الأمنية
والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية وغيرها دون تعال أو محاولة قهر.
بيد
أن ما جري خلال العقود الخمسة كان انحرافاً زادت درجته واتساعه خلال
الثلاثين عاماً الأخيرة التي اندفعت الأجهزة الحكومية إلى مسار محفوظ
بالمخاطر والأضرار من خلال عدة آليات وممارسات أبرزها:
ـ زيادة مفهوم
الجباية وفرض الرسوم دون مقتضي في الكثير من الأحيان مرة تحت عنوان
التبرعات (الإجبارية) وأخري تحت ذرائع المخالفات أو رسوم الخدمة مما شكل
علاقة قهرية بين المواطنين وجهاز الخدمة الحكومية.
ـ التعالي الشخصي
للقائمين بالخدمة على طالبيها سواء بدوافع السلوك المنحرف للموظف أو بسبب
حالة التوتر للقائمين بالخدمة أو تحت شعور بالحرمان من الحقوق.
ـ التدني
الشديد للأجور والرواتب للعاملين في معظم أجهزة الخدمة المدنية خاصة في
المحافظات (3.5 مليون موظف يشكلون 65% من إجمالي العاملين بأجهزة الخدمة
المدنية) في وقت كان بادياً أن هناك ثروات ودخول جديدة قد طرأت على المشهد
خاصة للعاملين بالخارج وأسرهم مما دفع الكثيرين من مقدمي الخدمة المدنية
إلى شعور مؤثم بضرورة المشاركة في هذه الدخول والثروات سواء بالحق أو
الباطل فانهارت قيم وارتفعت أخري ومعها تدهورت نظم الخدمة التعليمية
والصحية وعيرها.
ومن ثم فإن إعادة التدريب والتثقيف الإداري وترسيخ
مفهوم "الخدمة" والتخلص فوراً من الأشكال والممارسات القديمة وممارستها
تصبح المدخل الصحيح والرئيسي لإعادة تصحيح وبناء الإدارة الحكومية.
ثانياً: إعادة البنية الإدارية إلى حجمها الطبيعي والمنطقي:
من أبرز ملامح الجهاز الإداري المصري بعد عام 1975م التوسع العددي
والتوسع التنظيمي دون مقتضي في كثير من الأحيان؛ فمن الناحية العددية زاد
عدد العاملين بالأجهزة الحكومية ـ دون شركات القطاع العام ـ من 1.3 مليون
عام 1970 إلى 2.4 مليون عام 1981 ثم إلى 5.8 مليون موظف عام 1998 ثم توقف
نموه وبدأت مرحلة التحايل الجديدة عبر بوابة "التعيين من النافذة الحزبية"
فأضيف إلى هؤلاء ما يزيد على 400 ألف موظف جديد من صغار الموظفين بعقود أو
كعمالة مؤقتة كمحاولة لخلق ركائز "للحزب الوطني" الحاكم سابقاً من أجيال
الشباب.
ومن ناحية أخري اندفعت أنانية البيروقراطية العليا في أجهزة
الإدارة بالعاصمة (الوزارات والهيئات العامة) فاستحدثت هياكل تنظيمية
ومستويات إدارية جديدة دون مقتضي حقيقي من حجم الأعمال والأعباء فعلى سبيل
المثال تحول تقسيم "إدارة" أو "إدارة عامة" إلى مستوي "القطاع" مع ما يترتب
عليه من إنشاء تقسيمات تنظيمية فرعية إضافية (إدارات مركزية وإدارات عامة
وإدارات وأقسام. الخ) فتحول الجهاز الحكومي إلى غابه من التقسيمات
التنظيمية والاختصاصات المكررة أحياناً والمتضاربة في كثير من الأحيان.
وبالتالي
فإن أية مراجعة تصحيحية لهذا الجهاز الحكومي من أجل تحسين كفاءته ورفع
مستوي فاعليته وإنهاء حالة الازدواج التنظيمي التي تعطل سير العمل وتؤدي
إلى متاهات لا ضرورة لها.
ولا يعني ذلك خفض أعداد العاملين بالقطاع
الحكومي وإنما إعادة بناء الهياكل الإدارية وتوزيع العاملين بما يؤدي إلى
مزيد من الخدمات للمواطنين.
ثالثاً: الأجور والرواتب:
تمثل هذه المشكلة ما يمكن أن نطلق عليه "ثغرة إبليس" التي منها انتشر
الفساد بكافة تجلياته في معظم الأجهزة الحكومية الخدمية؛ وبدون إصلاحها
وإعادة هيكلة نظام الأجور والرواتب فلن تنصلح أبداً أحوال إدارة جهاز
الخدمة المدنية والحكومية. ويتمثل الخلل في نظام الأجور بالقطاع الحكومي في
ثلاثة هي:
1- أن مستويات الأجور والرواتب خاصة بإدارات المحافظات (3.5 مليون موظف) غير إنسانية وغير مقبولة.
2- أن
الأجور والرواتب والمكافآت المصروفة بوحدات الجهاز الإداري بالعاصمة (1.6
مليون موظف نصفهم بجهاز الشرطة) هي الأفضل ولكنها أيضاً دون المستوي
المأمول وتحتاج إلى إعادة هيكلة.
3- أن هناك سوء توزيع هائل بين
المستويات الوظيفية في الدخول والمكافآت خاصة بعد دخول "لجنة السياسات"
والحزب الحاكم على خط التعيين بالواسطة والمحسوبية لأفراده وأقربائهم
بالأجهزة الحكومية والبنوك.
وبالتالي فإن إعادة هيكلة المستوي الراهن من
فاتورة "الأجور والرواتب" الواردة في الموازنة العامة للدولة من شأنها
زيادة دخل الموظفين الشهري في حدود 500 جنيه إضافية خاصة بعد إعادة ضبط
المكافآت الهائلة التي يحصل عليها ما يقارب 45 ألف مستشار من أقرباء وأعضاء
لجنة السياسات يحصلون وحدهم على 12 إلى 15 مليار جنيه سنوياً حيث يبدأ
الحد الأدني لعقد المستشار بـ10 آلاف جنيه شهرياً بخلاف المكافآت والبدلات
الأخري بينما الحد الأقصى قد تجاوز (مليون جنيه شهرياً) خاصة في المصارف
والبنوك واتحاد الإذاعة والتليفزيون. وقد سيطروا على معظم قمم الجهاز
الإداري والمصرفي والمالي في البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة.